الجمعة، 1 أغسطس 2008

لحظة الوداع

لحظة الوداع :
.. توالت الأيام وكثرت المشاغل واهتم الفقيد بامور الجميع وامور اسرته ونسي نفسه ... المرض من جسمه النحيل شيئا فشيئا وبدا جسمه يزداد شحوبا ونحولا مع غروب شمس كل يوم من ايامه يزداد كمشهد غير طبيعى كان يلاحظه كل من يلتقى بالفقيد ، ولكنه كان ينكر حقيقة اعتلال صحته حتى على اسرته بالرغم انه كان يعانى اشد المعاناة من المرض ولا سيما اثناء النوم ، ولكنه فى الصباح يسعى جاهدا ليعكس صورة صحية جيدة عن نفسه مع ان اسرته كانت تدرك عكس ما يحاول اقناعهم به ، ومع ازدياد المرض بدا يزور الاطباء ولكنه لم يكن يواصل العلاج الذين يمنحونه له ، اذ انه بمجرد ان يسكن الالم سرعان ما ينسى نفسه مرة اخرى فيهمل تناول الدواء وهكذا الى ان تمكن المرض من نفسه واصبح الامر واضحا ، ولم يكن بدا من مواصلة العلاج ومعاودة المستشفيات ولأسابيع عديدة ، كان آخرها مستشفى سمبل بالعاصمة حيث قال لهم الطبيب " على المريض ان يتناول هذا الدواء ومن ثم يعود الينا بعد شهرين " انها عبارة تحمل اكثرمن معنى حسب ما فهمها عمى محمد صنعفى انذاك ، ورجع الفقيد مع اخيه محمد صنعفي الى صنعفى وكان من المقرر ان يمكث يوما واحدا فى المنزل ويحجز له سريرا فى مستشفى صنعفى لمواصلة العلاج ، ووصل الى صنعفى فى نهاية شهر شعبان ، وبات ليلة واحدة هى كانت اخيرة بالنسبة له فى منزله ، وفى الصباح جاءت سيارة لتقله الى المستشفى وكانت لحظات الوداع الاخير ونظر الى منزله واسرته وهو يهم بصعود السيارة وقال " الله معاكم " كان اخر كلمة نطقها ويبدو ان احساس ما كان يراوده . ووصل المستشفى وكان اليوم الاول لرمضان وفى اليوم الثانى بعد الظهيرة اصبح الالم يشتد تدريجيا ، وفى اليوم الثالث فقد وعيه تماما ، واصبحت الامور تتجه نحو الاسوأ وكان الخيار هو اخبار ابنائه ليحضروا ربما لحظة الوداع واتصلوا بسراج واسماعيل اما انا فنظرا لاننى كنت فى امتحان السنة النهائية من دراستى الجامعة فقرروا ان لا يخبرونى بمرضه .
كان ذلك اليوم يوما غير عاديا اذ كان الجميع فى المستشفى و كان خالى محمود حامد ايضا يعانى من مرض شديد فى قرية "القراب " وكان لابد من احضاره للمستشفى وتحمل الشباب حمل المريض على اكتافهم من القرية الى مستشفى صنعفى لان الطريق لا تسلكه السيارات ، وفى حوالى الساعة الخامسة عصرا حجز لخالى محمود سريرا بالقرب من الفقيد وانتقل موكب الزوار الى الجهة الاخرى ، وكان الجميع يترقب اذان الافطار وفى وقت هادئ، ولحظات ساكنة ، وفى صمت رهيب ، اسلم الفقيد روحه الي بارئها مودعا هذه الدنيا الفانية فى حوالى الساعة السادسة قبيل غروب الشمس واذان الافطار .
وعمت الفوضى المكان لان معظم افراد الاسرة كانوا حضورا ، فلم يستطع البعض تحمل نبأ الرحيل ، ذلك الحدث الرهيب لان هذا الرحيل كان فاجعا بكل ما تعني الكلمة ولكن هي ارادة الله ولا حول ولا قوة الا بالله ، وفى نهاية الامر تمكن البعض من السيطرة على الموقف وتم اخراج النساء من العنبر ومن ثم تم اخراج الجثمان والذهاب به الى المنزل الذي شهد صولاته وجولاته في خدمة المجتمع صغيرهم وكبيرهم مسلمهم ومسيحهم ، ولكن محمولا علي الاعناق هذه المرة علي عكس ما تعودت تلك الدار التي غشيتها الحزن والكآبة فلاذت بالصمت خرساء لا تصدق ما جري بعد ان فقدت من احيا ارضها فصبغها بالنشاط والحيوية صباح مساء فكان الوجوم يحيط بجنبات الدار واركانها المختلفة في منظر لم يألفه فناء هذا الدار من قبل . وكان هذا اليوم هو السابع من رمضان من عام 1426 هـ الموافق 11 اكتوبر 2005م وشهدت صبيحة يوم الاثنين الثامن من رمضان مراسم مواراة الفقيد الثري وتقاطرت الحشود البشرية الي مقبرة صنعفي فضاقت جنبات المصلى بالمصلين ، اذ لم يكن بامكانه ان يستوعب هذه الاعداد الضخمة من مسلمي صنعفي وحتي مسيحييها الذين حضروا لتوديع الفقيد من علي مشارف اسوار المقبرة ، وادي الازدحام الشديد الي نزول تلك الحشود الى الشارع الرئيسى الذى يربط بين صنعفى واسمرا وتوقفت حركة السيارات وتعطلت تماما بسبب صفوف المصلين وكان مشهدا غير مألوفا فى صنعفى ، وكانت لحظة ادخاله القبرهى اصعب لحظة على هؤلاء الناس وخاصة ابناءه الذين كانو حضورا وخيم الحزن علي الجميع سيما الحضور الذين ضاقت بهم جنبات مقبرة صنعفي علي سعتها ولكنها سنة الحياة تنمو شجرة الحياة وسرعان ما يصيبها الذبول لتعلن نهاية حياة ذلك الانسان ليكتفي من الكون بحفيرة تواري جثمانه " مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى " .
لم اكن انا الوحيد الذي حرم من القاء النظرة الاخيرة علي الوالد بل كان اخي سراج يشاركني هذا الحرمان اذ وصل الي اسمرا قادما من اليمن في ذات الامسية التي شهدت دفن الفقيد اما اخى اسماعيل فقد وصل قبل الوفاة بثلاثة ايام، اما انا فلم اسمع بنبأ المرض ولذلك كان الوقع بالغا ونزل علي كالصاعقة ولكنى لم اجد مفر من ان اسلم بقضاء الله وقدره فكل شيئ هالك الا وجه الله جل وعلا ولا حول ولا قوة الا بالله وانا لله وانا اليه راجعون .
بهذا الرحيل المفاجئ للوالد بدأت بالنسبة للاسرة مرحلة جديدة مرحلة الفراغ المفاجئ الذى احدثه هذا الرحيل ، وكان على ان اسافر فى اسرع وقت ممكن وكنت حينها فى زحمة الامتحانات ، ولكن اتخذت قرارا يقضى بان آخذ كل المواد الممتحنة كبدائل لكى اتمكن من السفر وانطلقت من الخرطوم صوب كسلا فى يوم الاحد 13 رمضان ومن ثم تسنى واسمرا وفى اليوم الرابع وصلت الى مدينة صنعفى .
وبعد تقديم واجب العزاء للوالدة ولاخوتى كان علينا ان نعمل جاهدين فى ترتيب وضعنا الداخلى لان العلاقات الواسعة للفقيد جعلتنا فى موقف لانحسد عليه اذ شكلت الاوراق والمستندات التى كانت بحوزته ومعظمها مستندات وتواكيل عقارية وامانات مالية شكلت مشكلة كبيرة بالنسبة لنا حيث كان يتحتم علينا اعادة تلك الاوراق والمستندات الى اصحابها فكانت الضرورة تقتضى بترتيب كل الملفات واعطائها لاصحابها فليس بمقدرونا اكمال الاجراءات التى كان ينجزها الفقيد . وقد وفقنا الله فى ترتيب اغلب المستندات وهنا افترق شمل الاسرة حيث ذهب ابراهيم الى مكان عمله وعاد سراج الى اليمن قبيل العيد الذى كان على الابواب وعدت انا بعد العيد مباشرة الى السودان وعاد اسماعيل الى جيبوتى وعمر الى الدراسة فى اسمرا- والان عين فى وزارة الزراعة فى صنعفى - ولم يتبق الا شقيقتينا زهرة وراضية وزوجة اخى سعدية فى صنعفى مع الوالدة اطال الله بقائها .