ردود افعال مجتمع صنعفى
(كوبا انك سنكو مرابينا امانتياكو كنى ربم )
( ليس فقدكم بل هو فقد الجميع )
هذه عبارة سمعتها من الحاج محمد صالح مدير الاوقاف فى مدينة صنعفى وتكررت هذه العبارة بذات الصيغة ولكن باختلاف الالسن واللغات فقد احدثت وفاة الوالد شرخا كبيرا فى حياة مجتمع هذه المدينة الوادعة ، فها هو احد الاخوة المسيحيين يتحدث عن مكانة الفقيد والدموع تتقافز الى عينيه : كان من طبيعة الحاج محمد سعيد ان يصحوا مبكرا وعندما كان يمر بوسط السوق حيث كانت بعض المتاجر والبقالات تشرع ابوابها مبكرا فكان يوزع علينا التحية التى كانت تضغى على صباحنا وميض بشرى وامل فقد كانت تحيته ذات نكهة خاصة نسبة لشخصيته المحبوبة واطارها التكرارى صباح كل يوم وكم افتقد الآن تلك التحية التى كنت افتتح بها صباحى لذا فقد كان الفقيد بالنسبة لى اخي الاكبر واعز الاعزاء علي "
وان كان حزن مسيحي صنعفى كبيرا على فقد المدينة الجلل فبالتأكيد كان حزن مسلميها اكبر كيف لا وقد كان الفقيد احد الواجهات الدينية البارزة فى المدينة لذا فقد بلغ الحزن منهم مبلغا كبيرا وكان اكبر الحزن هو ذلك الذى رأيته على وجوه الطلاب الذين يأتون من ضواحي صنعفى حيث كان الفقيد يقوم باجارتهم البيوت التى يملكها وباسعار زهيدة وكان يعاملهم كانهم ابنائه ومع اننى لم اتعرف على غالبيتهم الا انهم وبمجرد علمهم بانى ابن الفقيد كانو يقدمون لى العزاء بحرارة واذكر فى احدى المرات ان احدهم اراد ان يعطينى رسالة الى احد اقربائه فى السودان بعد ان عرف اننى سوف اعود الى السودان واراد منى ان احدد له مكانا ليسلمنى الرسالة فلم نتفق فقلت له هل تعرف منزل الحاج محمد سعيد قال لى : نعم فقلت له اأتنى بها هناك فانا ابنه فذهل الرجل وكاد ينتحب لما علم اننى ابن الفقيد .
ولان فيض الفقيد كان يملأ السوح والارجاء فقد قال آخر يتذكر تلك الذكريات التى جمعته بالفقيد وهي ينعى نفسه قبل الآخرين فيقول :
كنت عاملا عاديا مع البنائين الذين يعملونا مع الفقيد رغم انى اجيد اعمال البناء ولكن الحياء منعنى ان اقول للفقيد انى اجيدها لعدم امتلاكى ادواتها وذات يوم وبينما كنت اعمل مع احد البنائين حدث اختلاف بسيط بينه وبين الفقيد فغادر العامل تاركا العمل ، وهنا تجرأت واخبرت الفقيد بانى اجيد العمل واثبت له ذلك عمليا فقال لي : لما احتقرت نفسك ولم تخبرنى سابقا فقلت له منعنى الحياء فاشترى لى ادوات البناء وعملت معه باجر اعلى من السابق بكثير واستمرت علاقاتنا التى كانت تزداد قوة يوم بعد يوم .. وانا لم ولن انسى هذا الموقف متى ما حييت واعتبر اننى برحيله فقدت ابا عزيزا كان يقف بجانبى فى كافة الظروف القاسية التى مررت بها " .
وكان له معاملات مالية مع كافة شرائح المجتمع فى مدينة صنعفى واذكر بينما كنت استعد للسفر من الخرطوم الى ارتريا عند وفاة الفقيد كان من بين المعزين شخص يدعى اسماعيل سلمنى مبلغا من المال وذكر لى انه استلف من الفقيد قبل عشر سنوات ولم اوفق فى سدادها اما الآن رحل الفقيد فكان لزاما علي ان اسدد المبلغ لاسرته .
هكذا اهل مدينة صنعفى ومن هم من ضواحيها فى اى مكان وزمان كان هم اهل وفاء واخلاص للفقيد وهذا مالمسته شخصيا بعد رحيله فالذين يقطنون ضواحى صنعفى لم يصلهم نبإ الوفاة من اول وهلة فكانوا يتقاطرون فى الايام التى تلت الوفاة رجالا ونساءا مسلمين ومسيحيين وكان اكثر ما كان يضايقنا عويل بعض النساء وخاصة المسيحيات حيث يصحن باصوات عالية وهن خارج المنزل وكان علينا ان نسعى جاهدين لكي نطيب خاطرهم واسكاتهم وكنت اجد صعوبة فى ذلك احيانا ، لدرجة كنت اغير من بعضهم لان حزنهم كان اكبر من حزننا ولعل اصدق ما سمعت قول احدهم " لولا الاصول تقتضى ان نعزى اسرته لكن نحن الذين نستحق التعزية لان فقدنا اكبر " لقد كان الفقيد ذو علاقة متشعبة بكافة افراد مجتمع صنعفى على اختلاف الاجناس والمعتقدات الدينية فكان " برهانى " عامل البناء الذى عمل مع الوالد لفترة امتدت لسنوات طويلة هو احد الذين كانو يعتبرون من مكامن اسرار الفقيد وكذلك ابوي زرؤوم وغيرهم من الذين لا تسعفنى الذكرة لذكر اسمائهم وكان المشهد واضحا وجليا يوم الدفن حيث تقع المقابر على الطريق الرئيسى بين صنعفى واسمرا حيث اقفل الشارع تماما امام السيارات لكثرة المتواجدين فى المقبرة من الحضور وكان الاستاذ محمد صالح مدير الاوقاف بمدينة صنعفى هو من يؤم صلاة الجنازة كالعادة ولكنه هذه المرة كان بعيدا هنالك فى العاصمة اسمرا ومعه الاستاذ سراج على صديق المرحوم حيث كان يستعد الاول للسفر الى كينيا لرؤية شقيقه المريض هناك ولكنه ما ان سمع بنبإ الوفاة فى وقت متأخر من ذلك اليوم وقت صلاة العشاء فاعلن تاجيله لرحلة السفر وقدومه للصلاة على اعز اصدقائه .
بعد فترة ترقب وانتظار طويلة وصل الاستاذ محمد صالح ولم يتمكن الاستاذ سراج من الحضور لعدم سماعه بنبإ الوفاة وام الصلاة على اعز عزيز له ومن كثرة حزنه وتأثره برحيل الفقيد لم يستطع تأدية الدعاء الختامى للصلاة حيث هزمته جيوش الاحزان . ومن الذين حضروا مراسم العزاء احد رجال الجيش الاردنى التابع لقوات الامم المتحدة المتمركزة على بعض النقاط الحدودية بين ارتريا واثيوبيا وكانت تربط الفرقة الاردنية علاقة طيبة بمجتمع صنعفى وقد قال كلمة ربما هى اصدق تعبير قد يتفوه به انسان حزين كسير الخاطر : " لا يبكى على رجل مثل هذا الرجل "
اذن هذا هو الفقيد ... هكذا عاش ... وهكذا رحل الى الرفيق الاعلى ... تصحبه دعوات اهل صنعفى بالرحمة والمغفرة جزاء ما قدمه لهم من خدمات جليلة ... فكان ان فقدت صنعفى ركنا اصيلا من اركان رجالاتها وقمرا كثيرا ما انار سماواتها .
دفن اهل صنعفى ذلك اليوم علما من اعلام مدينتهم وودعوه الى مثواه الاخير تحضرهم اطيافه وهى تلوح مودعة بالتياع وحسرة :
اودعكم وفى قلبيى شروخ ******** اهدهدها ولا يجدى عزاء
يكاد الدمع يغلبنى ويجــــرى ******** فاحبسه فما طبعى البكاء
اذا المولى اراد بنا افتراقا ********** فان الله يفعل ما يشاء
وان خلصت لخالقنا النويا ***********ففى جناته يكن اللقاء